انتظرتُني.. سُدًى

filename-p1030890-jpg

على رصيف الانتظار، نضجتْ أمانيّ جميعها، فصلا فصلا، حدّ الاحتراق.
أشهدُ أني انتظرت سُدًى:
– كلماتٍ بحّ صمتها
– حضنا يلمّ شظايا القصائد المتناثرة
– ربيعا يعيد للحنين ما تساقط من ألوانه
– مجازا أصيب بالشلل ففقد قدرته على مراقصة المعاني
– روحا علقت في زحام المشاعر التائهة
– آمالا كانت أجمل من صاحبها
– وخيالاً لا يتأثر بفيزياء الخيبات
في الفصول جميعها، أشهد أنني انتظرتني.. سُدًى.
‫#‏له‬ لا ‫#‏لها‬

“عبقرية محمد”.. فنّ تغيير العالم بلا معجزات!

يُعدُّ كتاب “عبقرية محمد” أشهر ما كتبه الأستاذ عباس محمود العقاد (1889 – 1964) في باب “الإسلاميات” ضمن مجموع ما ألّفه، وفيه من حسن البيان وقوة الحجة وسعة الثقافة وصدق الإيمان وشواهد المحبة للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ما يجعلك تتأكد أن سعة الإطلاع والاغتراف من الثقافات المختلفة يفتح أمام العقل آفاق الحق، لأن “الحكمة تشهد للحكمة” كما يقول القاضي أبو الوليد ابن رشد الأندلسي الحفيد (520هـ – 595هـ/ 1126م – 1198م). إقرأ المزيد

لا تُصدّق قلمي!

لا تُصدِّق قلمي..

صدّق الصمت الذي 

يخنق قلبي.. وفمي

صدّق الطوفان في مجرى دمي

صدّق الألحان نزفًا

في اشتياق النّغمِ

والأماني العاثرَهْ

ولتصدّق جُرحيَ المُلقى 

على درب القلوب الجائرَهْ

والهوى السادر في أهوائهِ

والقوافي الثائرَهْ

ولتصدّق سَقَمي 

وانحداري.. 

في ارتقاء القمَمِ

ولتحاور ألمي.. 

فلتُحاور ألمي

 

حروف على حافة الهذيان!

 

(1)

هل التقينا ذات يوم حقا؟

ما الذي جعلني أطرح هذا السؤال الآن، بعد أكثر من عقد مُذ عرفتك؟ أيُعقل أن تلجأ الخيبة إلى النسيان مستعصمة به، هروبا من واقع مُحزن؟

(2)

“لا مجال للهرب، سنعيش حتى يدفن أحدنا الآخر”.. هكذا قلتِ. كأن الحياة لديكِ جسرٌ للموت فقط، لا تهمك منها سوى العبارة الساذجة التي تُكرّر في القصص الخرافية: “وعاشا سعداء حتى أتاهم هادم اللذات”. تُرى: ما الذي سيهدمه الموت إن       لم يجد في حياتنا لذّة ليهدمها؟

(3)

لم يسمّون القصص التي تُختتم بنهايات سعيدة، حيث ينتصر الخير على الشر، “قصصا خرافية”!

(4)

لماذا أشعر أن الحياة تحولت إلى سجن كبير، حُكم عليّ فيه بالمؤبد عيشا معك؟ معكِ فقط أكتشف أن القلب الذي أحب حدّ الجنون يمكنه أن يكره حد الجنون أيضا.

ربما كان أفضل لو لم نلتقِ.. ربّما كان ذلك أجمل.

(5)

“ليتني كنت أجرأ من قصائدي”. هكذا يقول الشاعر الذي لا يشعر بطعم الحياة سوى في قوافيه! هي شيزوفرينيا المُبدع الذي يخلق بكلماته حياة موازية. للقارئ متعة الإحساس المتولد عن دقة تعبيره، وله هو النزف إبداعا حتى الموت.

(6)

قالت لي إحداهنّ يوما في معرض الحديث عن غادة السمان: “هي حزينة حدّ الإبداع”! قلت لها: “بل هي مُبدعة حتى الحُزن.. فأنا أجزم أنها عاشت حياة تعيسة”. كلانا مُحق في وصفه، ما دام الحُزن والإبداع وصفان مُتلازمان إذا قررا الانصهار في روح الحرف.

(7)

ما يؤلمني: حِملُ التاريخ الذي يُثقل كاهلي.. الاحتباس العاطفي، وأنتِ.

(8)

 “أنتِ”.. ضمير متنمّر، مبتدأ لحكاية خبرها محذوف، تقديره: “خيبة”!

(9)

تُرى، هل كنتُ لأكتب لو كنتُ سعيدا؟ صدق من قال: الكتابة تعويض!

(10)

يقول أنا الشاعر: “هذا القلب الذي أحبك ينزف حروفا.. حبذا لو أوقفت هذا النزيف بضمادة حنين”.

 (11)

“الناس صنفان: صنف خُلق للحب، وصنف خُلق للكتابة عن الحب”.. قال لها.

سألتْهُ: “وأنت من أي الصّنفين”؟.. أجابها: “من الذين لم يُخلقوا بعدُ”.

(12)

كم أحببت أن أحبّك.. كم كرهت أن أكرهك.. كم رغبتُ أن أرغب فيك.. وكم خفتُ من خوفي منكِ! هل جرّبتِ يوما: أن تقاطعي قطيعتي!

(13)

هل كنتُ أنظر إلى ما وراء الغيب حين كتبتُ يوم أحببتك: “الحبّ مقبرةُ المشاعر كلّما * جاشتْ، تبدّى بالفَنَا موصولا”!

(14)

يحدث للحب أن ينقلب على نفسه، فيستحيل كراهية متخفّية برداء الكبرياء!

(15)

بعض القلوب تنسى القاعدة الأولى للحب: أنه يُبنى على أنقاض الإكراه لا على أسسه!

فصوص من رائعة كونديرا “كائن لا تُحتمل خفته”

يحظى هذا الكتاب بأهمية كبيرة – في تقديري – بسبب أمور عدة:

– اكتشاف طريقة جميلة للسرد الروائي أبدع فيها ميلان كونديرا عبر رحلة تكسر الطوق الزمني لمسار الأحداث، في حركة دائرية تبدأ ثم تسير قُدما ثم ترجع إلى الوراء، وبشكل مُتقن يفتح الباب أمام فهم بعض الأحداث بأثر رجعي.

– الفلسفة القوية التي ضمنها الروائي الكبير روايته هذه، وهي تحمل تصوراته الفكرية بصفته اشتراكيا متمردا على الطوق الذي ضربته الأيديولوجيا الشيوعية، في قالب وجودي يقرأ الإيمان والحياة والحب والعلاقات البشرية بطريقة مغايرة للمألوف.

– ترسيخ قناعة الإدانة لكل مذهب ديني أو فلسفي أو سياسي يفرض تصوراته على الناس بطريقة شمولية تلجأ إلى الإرهاب ومصادرة الحريات وتكميم الأفواه، حيث يمسخ الطغيان البشر ويحوّلهم إلى أدوات يستخدمها الجلاد، ويعيش المجتمع بوجوه متعددة قاسمها المشترك هو الانسلاخ من معاني الإنسانية دفاعا عن المذهب أو اتقاء لشر المخالفين. وأستحضر هنا نصا نفيسا لابن خلدون ذكره في “مقدّمة” تاريخه: “ومن كان مُربَّاه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم، سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخُبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله، وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين. وهكذا وقع  لكل  أمة  حصلت  في  قبضة  القهر  ونال  منها  العسف،  واعْتَبِرْهُ في  كل  من  يُملك  أمره  عليه،  ولا  تكون  الملكة  الكافلة  له  رفيقة  به. وتجد  ذلك  فيهم  استقراء”.

وهذه بعض المقتطفات التي لفت انتباهي واستوقفتني أثناء القراءة: [كائن لا تُحتمل خفّته، ترجمة: ماري طوق، ط.المركز الثقافي العربي، ط2/ 1998]:

“لا يمكن للإنسان أبدا أن يُدرك ماذا عليه أن يفعل، لأنه لا يملك إلا حياة واحدة، لا يسَعُه مقارنتها بحيوات سابقة ولا إصلاحها في حيوات لاحقة” (9)

“لو لم تُخرج ابنة فرعون سلّة موسى الطفل من الماء لَمَا كان العهد القديم ولا كانت معه حضارتنا! في بداية أساطير كثيرة هناك أحدٌ ما يُنقذ طفلا لقيطا. لو لم يلتقط بوليب أوديب الطفل لما استطاع سوفوكل أن يكتب أجمل مسرحياته التراجيدية” (11)

 

“كان يرغب فيهنّ إنما كان يخاف منهنّ. بين الخوف والحب وجب عليه أن يجد تسوية ما، تسوية سماها “الصداقة الجنسية”” (12)

 

“النوم المشترك هو جسم الجريمة للحب” (13)

 

“أن نُحبّ أحدا شفقةً به فهذا يعني أننا لا نُحبه حقًّا” (20)

 

“إن البطل البيتهوفيني ربّاع يرفع أثقالا ميتافيزيقية” (32)

 

“كانت تُحاول أن ترى روحها من خلال جسدها. لذلك كانت تنظر مرارا إلى نفسها في المرآة” (36)

 

“للصدفة وحدها مثل هذا السحر، لا الضرورة. وكي يكون حبنا غير قابل للنسيان، يجب أن تجتمع الصدف من اللحظة الأولى مثلما اجتمعت العصافير فوق كتفي القديس فرنسيس الأسيزي” (43)

 

“ذلك الذي يسقط يقول: “انتشلني”! (53)

 

“ارتُكبت جميع الجرائم السابقة في الإمبراطورية الروسية في حمى ظلمة من الكتمان. فنُفيَ نصفُ مليون من سكان “لتوانيا” وقُتل مئات الآلاف من البولونيين وصُفّي التتر في “كريميه”، كل هذه الجرائم بقيت في الذاكرة من دون صور تُقيم الدليل على وقوعها، فبقيتْ إذاً كشيء مُتعذّر إثباته وسيتمُّ إظهارها عاجلا أم آجلا وكأنها محضُ اختلاق” (58)

 

“كلُّنا ضعفاء في مواجهة قوة أعظم منّا” (64)

 

“لقد أوجد كلاهما، بالتناوب، جحيما للآخر، حتى ولو كانا مُتحابّين” (66)

 

“إن الخيانة الأولى لا يمكن إصلاحها وهي تثير عن طريق النتائج المتوالدة خيانات أخرى حيث تبعدنا كل واحدة منها أكثر فأكثر عن نقطة الخيانة الأولى” (80)

 

“كان الجدال يدور حول معرفة ما إذا كان يُفترض بهم أن يحملوا اللاح لمقاتلة الروس أم لا. من البديهي أن الجميع كان يُطالب هنا، في حمى الهجرة، بوجوب القتال. ولكن سابينا اعترضت قائلة: “عودا إذًا! وقاتلوا!” (83)

 

“كان فرانز يشعر أن حياته كانت غير حقيقية بين أوراق الكتب” (87)

 

“ما صادفتْهُ في هذه الكنيسة على غير موعد لم يكن الله بل الجمال” (97)

 

“فرانز قوي ولكن قوته موجهة فقط نحو الخارج. أما مع الناس الذين يعيش بينهم، مع أولئك الذين يُحبهم فهو ضعيف. ضعف فرانز يسمّى الطيبة” (98)

 

“العيش في الحقيقة”.. إنها عبارة استعملها كافكا في يومياته أو في إحدى رسائله. لم يعد فرانز يتذكر أين بالضبط. ولكن هذه العبارة تسحره. فما معنى أن نعيش في الحقيقة؟ ثمة تعريف سلبي سهل: معناه ألّا نكذب وألا نخفي وألا نكتم. وهو، مُذ تعرّف إلى سابينا، يعيش في الكذب” (99)

 

أما فرانز فهو متأكد أن أصل جميع أنواع الكذب يكمن في الفل بين الحياة الخاصة والحياة العامة: حين يكون المرء شخصا في حياته الخاصة وشخصا آخر في حياته العامة. فالعيش في الحقيقة، بالنسبة لفرانز، هو إلغاء الفال بين الخاص والعام” (99)

 

“الحبّ صراع؟ ليست لي أدتى رغبة في القتال” (108)

 

“يمكن لنا أن نخون أهلا وزوجا وحبا ووطنا، لكن ما الذي يتبقى حين لا يعود هناك أهل لنخونهم أو زوج أو حب أو وطن؟” (108)

 

“فالقبور في باريس عميقة قد ما هي البيوت عالية” (109)

 

“وحدها الأسئلة الساذجة هي الأسئلة الهامة فعلا. تلك الأسئلة التي تبقى دون جواب. إن سؤالا دون جواب حاجز لا طرقات بعده. وبطريوقة أخرى: الأسئلة التي تبقى دون جواب هي التي تشير إلى حدود الإمكانات الإنسانية، وهي التي ترسم حدود وجودنا” (120)

 

“لكي نتحاشى العذاب نلجأ في أكثر الأحيان إلى المستقبل. فنتصور أن ثمة فاصلا ما على حلبة الزمن يتوقف بعد العذاب الحالي عن أن يكون موجودا” (143)

 

“وعلاقات الحب هي مثل الإمبراطوريات، ما أن يختفي المبدأ الذي بُنيت على أساسه حتى تختفي معه أيضا” (147)

 

“هؤلاء الذين يعتقدون أن الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية في فقط  من اختراع مجرمين، فإنهم يغفلون حقيقة أساسية: الأنظمة المجرمة لم يُنشئها أناس مجرمون وإنما أناس متحمسون ومُقتنعون بأنهم وجدوا الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى الجنة. فأخذوا يدافعون ببسالة عن هذا الطريق، ومن أجل هذا قاموا بإعدام الكثيرين. ثم، فيما بعد، أصبح جليا وواضحا أكثر من النهار، أن الجنة ليست موجودة وأن المتحمسين كانوا إذا مجرد سفاحين” (152)

 

“وكان يُفكّر أن السؤال الأساسي ليس: هل كانوا عارفين؟ بل: هل هم أبرياء لأنهم غيرُ عارفين؟ إن غبيا جالسا على العرش، أهو منزه عن كل مسؤولية فقط لأنه غبي؟” (152)

 

“لكم نحنُ ضعفاء أمام المديح!” (160)

 

“الحب يبدأ في اللحظة التي تُسجّل فيها امرأة دخولها في ذاكرتنا الشّعرية من خلال عبارة” (183)

 

“من الأفكار ما يُشبه جريمة اعتداء” (192)

 

“الأفكار أيضا يُمكنها أن تُنقذ حياة” (192)

 

“فشخصيات روايتي هي إمكاناتي الشخصية التي لم تتحقق. هذا ما يدفعني لأن أحبّهم كلهم ولأن أرتعب منهم في الوقت نفسه. ذلك أن كل واحد منهم عبر حدودا ليس في مستطاعي سوى الالتفاف حولها. وهذه الحدود التي عبروها (والتي بعدها تنتهي “أناي”) هي ما يشدّني إليهم. لأن في هذا الجانب الآخر وحده يبدأ السّر الذي تسبر غوره الرواية. فالرواية ليست اعترافا ذاتيا للكاتب، وإنما تنقيبٌ عمّا تصيره الحياة الإنسانية في الفخّ الذي يسمى العالم” (196)

 

“الحبّ هو تلك الرغبة في إيجاد النصف الآخر المفقود من أنفسنا” (213)

 

“اللعنة والنعمة، السعادة والشقاء، لا أحد أحس مثله فعلا إلى أي حد هذه التناقضات قابلة للتبادل فيما بينها، وإلى أي حد ضيقة هي الحافة التي تفصل بين قطبي الوجود البشري” (216)

 

“فلنحفظ هذا جيدا: كانت اللذة موجودة في الجنة لا الإثارة” (218)

 

“حين يتكلم القلب لا يعود لائقا أن يُصدر العقل اعتراضات. ففي مملكة “الكيتش” تسود دكتاتورية القلب” (221)

 

“قام بهذه الرحلة ليُقنع نفسه أن الحقيقة شيء أكثر من الحلم، شيء أفضل بكثير من الحلم!” (241)

 

“وحفر على شاهدة القبر تحت اسم أبيه الكتابة التالية: “أراد مملكة الله على الأرض”.

كان يعرف جيدا أن والده لم يكن ليستعمل هذه الكلمات مطلقا. ولكنه كان متأكدا من أن الكتابة تُعبّر بدقة كما كان يريد أبوه. ففملكة الله تعني العدالة، وتوماس كان متعطشا إلى عالم تسوده العدالة” (244)

 

“الطيبة الحقيقية للإنسان لا يمكن أن تظهر في كل نقائها وحريتها إلا حيال هؤلاء الذين لا يمثّلون أية قوة. فالامتحان الأخلاقي للإنسانية (الامتحان الأكثر جذرية والذي يقع في مستوى أكثر عمقا بحيث أنه يخفى عن أبصارنا) هو في تلك العلاقات التي تقيمها مع من هم تحت رحمتها، أي الحيوانات. وهنا بالذات يكمن الإخفاق الجوهري للإنسان، الإخفاق الذي تنتج عنه كل الإخفاقات الأخرى” (255)

 

“المقارنة بين كارينين وآدم تجعلني أفكّر بأن الإنسان في الجنة لم يكن قد صار إنسانا بعد. وبطريقة أصح، لم يكن الإنسان قد قُذف بعدُ إلى مدار الإنسان” (261)

 

“الحنين إلى الجنة إذًا هو رغبة الإنسان في ألّا يكون إنسانا” (261)

 

“ولكن تجدر الإشارة خصوصا إلى هذا الأمر: لا يمكن لأي إنسان أن يُقدّم للآخر قربان الحب البريء. وحده الحيوان يستطيع ذلك لأنه لم يُطرد من الجنة.. الحبّ بين الإنسان والكلب حبّ بريء، حبّ دون صراع ودون مشاهد ممزّقة ودون تطوّر” (263)

 

“الوقت الإنساني لا يسير في شكل دائري بل يتقدم في خط مستقيم. من هنا، لا يمكن للإنسان أن يكون سعيدا لأن السعادة رغبة في التكرار” (263)

 

“كيف تُمكن معرفة متى يصير العذاب غير مُجدٍ؟ وكيف نحدد اللحظة التي لا تعود الحياة فيها جديرة بأن تُعاش؟” (264)

 

“آه! أي هول! نحلم مسبقا بموت من نُحبّهم” (266)

 

“الهلع صدم، لحظة عمى كلّيّ. الهلع مجرّد من أي مسحة جمال. لا نرى خلاله إلا النور المُبهر للحدث المجهول الذي ننتظره. وخلافا لذلك، الحزن يفترض مسبقا أننا نعرفه” (269 – 270)

 

“إنها لتعزية لا تُقدّر بأن نشعر بأننا أحرار وأن لا رسالة لدينا” (278)

 

“هاقد وصلتْ إلى مبتغاها: كانت قد رغبت دائما في أن يصير عجوزا” (278)

 

“كان الحزن هو القالب والسعادة هي المُحتوى، والسعادة تملأ مساحة الحزن” (279)

 

صحافتنا والثورات: مع الاستبداد تجنبا للفوضى!

في سياق هذا الحراك العربي، تجاهلت أقلامنا حقيقة أساسية مفادها أن الحرية شيء مقدّس: سواء كانت في ليبيا أو سوريا أو السعودية أو حتى الجزائر، وأن انحراف بعض المطالبين بها لا يعني بحال السكوت عن جريمة الأنظمة الأولى: الاستبداد.

 

منذ بداية الثورة الليبية وتوالي الأحداث التي لم يتوقع أحدٌ نبضها المتسارع، بما في ذلك العقيد القذافي نفسه، تتابعت التعليقات المعبِّرة عن الموقف من هذا الحدث ما بين مؤيد ومعارض، وانتقل النقاش إلى الحقل الإعلامي نفسه والتباحث حول أفضل الطرق للتعامل معه.

غير أن النقاش في كثير من الأحيان بدا، للأسف، مُعبّرا عن ردود أفعال وانفعالات عاطفية أكبر من كونه معبّرا عن “وعي” بالحراك العربي: ربيعه وصيفه الذي حمل معه بشائر لم تصمد في أكثر من دولتين: تونس ومصر، لتنهار على وقع نُذر حرب أهلية في اليمن، وتدخّل أجنبي في ليبيا، ومجازر في سوريا لم يحظ ضحاياها ـ عمليا ـ بالتعاطف اللازم وكأن “الثورة” أصبحت موضة قديمة لم تعد تستهوي دُعاة التغيير، ولا تُخيف الأنظمة الصامدة المُرابطة على عروشها.

بهذه الانفعالية الآنية التي تجمع بين الشيء ونقيضه في آن، صدرت البيانات التي وقّعها إعلاميون دافعوا عن حق الشعب الليبي في التغيير ثم دافعوا عن حق “الزعيم الليبي” في الدفاع عن حُكمه، وبهذه “المراهقة” أغرقتنا الصحف بعشرات الحوارات مع مواطنين ليبيين: مشايخ وموظفين عاديين وأساتذة مغتربين تحولوا جميعا إلى “نشطاء سياسيين معارضين” يبشرون بسقوط النظام “قريبا”.

تكلّم الإعلام الجزائري، سيما المكتوب منه، عن أشياء كثيرة ترتبط بما يحدث في ليبيا، بدأت بدعم كبير للثوار الليبيين [أو “المتمردين” حسب تعبير وكالة الأنباء الفرنسية] ومتابعة تحركاتهم والإشادة بهم وإدانة “المجنون” كما سمته صحيفة جزائرية “كبيرة”، ثم انقلب هذا الدعم على عقبيه، وتحول إلى تخندق واضح في صف المؤيدين للقذافي، خاصة بعد إعلان الحكومة الجزائرية موقفها من الصراع الدائر على حدودها الشرقية والجنوبية، وفي كلتا الحالتين: كان وقع هذا الكلام ضعيفا، بلا رجع صدى، يطرح الأسئلة الخاطئة ويجيب عنها بأجوبة مغلوطة، قُدّمت لنا فيه مفاهيم أخرى للحيادية والموضوعية في مواجهة “حيادية” قناة الجزيرة التي نالت حظها من الاتهام بالعمالة والتخوين، بل انتهى الأمر إلى تمجيد القذافي وتصوير “الناتو” بمظهر المحتل الغازي واعتبار ما يحدث على أرض ليبيا فصلا من فصول الحرب الصليبية التي يخوضها الغرب ضد المسلمين، دون إغفال الإشادة بصمود العقيد واستبسال جيشه في الدفاع عن ليبيا بما يُنسي الرأي العام العربي بطولة حزب الله في صد العدوان الإسرائيلي وصمود غزة في وجه العدوان الصهيوني!
نعرف أن الموقف الجزائري الرسمي من الأحداث الليبية كان المؤشر العلني، بعد مؤشرات خفية، للصحف التي لم تفهم الرسالة وحاولت أن تكمل مسيرة “الإشادة” بالثورات العربية التي سبقت الحالة الليبية: تونس ومصر تحديدا. وعلى قدر البشارة الأولى ـ التي كانت مجرد انفعال عاطفي يحاول الاقتراب من الشارع المتعاطف مع الثورات ويستحضر في لاوعيه تجربة “الجزيرة” المحرّكة للشعوب ومحاولة اقتفاء أثرها ـ جاء النذير يحذّر بأعلى صوته من “الثوار” الذين تحولوا بين عشية وضحاها إلى “عملاء” يخدمون المصالح الغربية في المنطقة، وكانت الاتهامات التي كالها معارضو القذافي للجزائر بدعم “النظام الليبي” وإمداده بالسلاح والوقود والمرتزقة “كعب أخيل” الذي حكم بالموت ـ من الناحية الرسمية وحتى الشعبية ـ على كل تعاطف من شأنه أن ينشأ مع دعاة التغيير الليبيين.

بهذه الانفعالية الآنية التي تجمع بين الشيء ونقيضه في آن، صدرت البيانات التي وقّعها إعلاميون دافعوا عن حق الشعب الليبي في التغيير ثم دافعوا عن حق “الزعيم الليبي” في الدفاع عن حُكمه، وبهذه “المراهقة” أغرقتنا الصحف بعشرات الحوارات مع مواطنين ليبيين: مشايخ وموظفين عاديين وأساتذة مغتربين تحولوا جميعا إلى “نشطاء سياسيين معارضين” يبشرون بسقوط النظام “قريبا”.

وعلى نفس الوتيرة جاءت التحركات الإعلامية الأخيرة صوب طرابلس، تحاول أن تنقل الصوت الذي لم يعد يسمعه أحد خارج الجزائر، لكنها عرضت لنا مشاهد “مبتورة” تكشف عن جانب واحد من الحقيقة المأساوية في طرابلس، وتنسى “حقائق مأساوية” أخرى في بنغازي والزاوية وزليتن والجبل الغربي.

لا داعي إلى التذكير بأن الزملاء الذين خاطروا بأنفسهم كانوا نزهاء في ما قاموا به، ولم يكونوا مدفوعين بغير مهنيتهم ومحاولة الاقتراب من المشهد بطريقة غير تلك التي تعرضها الفضائيات العربية المؤيدة للثورة الليبية. وعرضُ الحقائق من جميع زواياها ليس مهمة صحافي واحد فقط، وقد حقق بعضهم سبقا إعلاميا يحلم به أغلب الزملاء الذين أنكروا عليهم واتهموهم بالعمالة والخيانة، ولكنها العقدة الجزائرية المستحكمة بامتياز: “الذيب إذا ما لحقش للعنب يقول قارص”.

أزمة الصحافة عندنا مرتبطة أساسا بأزمة النظام نفسه، بما يجعلها مرآة شاحبة تعكس صورة باهتة لا تُغري أحدا بالوقوف عندها، وهي في أساسها أيضا أزمة مرتبطة بأخلاقيات مهنة لم يكن النجاح فيها وليد القيم التي كانت الصحافة الحرة من أبرز إنجازاتها.

وبعيدا عن الأهداف التي سعى إليها إعلاميونا في “الرحلة الطرابلسية”، هذه هي الرسالة التي وصلت من خلال كتاباتهم [وفق قراءتي الشخصية]: “استعمار يقوده الناتو ضد ليبيا، ومجازر يرتكبها الغرب ضد أبرياء في طرابلس، وقصف عشوائي، وحماية بعض المدنيين بقتل أكثرهم، وثوار عملاء للغرب يستعينون بالعدو الخارجي للإطاحة بالنظام الليبي”. في حين لم نسمع إدانة واحدة لمجازر القذافي نفسه في حق أفراد شعبه، ولم نشاهد صور ضحايا العقيد الذين استهدفهم بقصف أشد عشوائية من قصف الناتو، ولم نسمع كلمة تقال، ولو على استحياء، عن مدى مصداقية نظام متجسد في شخص واحد يحكم بلدا بحجم ليبيا منذ أكثر من 40 سنة! ولم نر مبعوثا لجرائدنا في بنغازي أو غيرها من المدن الليبية التي وقعت تحت سيطرة الثوار.
في هذا السياق، وعند تتبع تعليقات الزملاء على الحدث برمته، في بعض المقالات وعلى جدار الفايسبوك وفي تعليقهم على ما كتبه زملاؤنا الذين ذهبوا إلى طرابلس، لا مناص من اعتبار أن أزمة الصحافة عندنا مرتبطة أساسا بأزمة النظام نفسه، بما يجعلها مرآة شاحبة تعكس صورة باهتة لا تُغري أحدا بالوقوف عندها، وهي في أساسها أيضا أزمة مرتبطة بأخلاقيات مهنة لم يكن النجاح فيها وليد القيم التي كانت الصحافة الحرة من أبرز إنجازاتها.

عندما نؤيد الثورة في تونس من منطلق أيديولوجي: إسلاميا كان أو يساريا أو ليبراليا، ثم نؤيدها في مصر “شماتة” بنظام مبارك الذي استنفر وسائل إعلامه الثقيلة ليذيع عبر الفضاء الرقمي كل ما تتفتق عنه عبقريته من سباب وتجريح في حق الجزائر وشهدائها وتاريخها، وعندما نسكت عما يحدث في اليمن لأنها بلد “غير مؤثر” [لا داعي لشرح خطأ هذا التصور]، ونتجاهل أحداث البحرين لأن محركيها “شيعة” هم في مخيالنا “أخطر من اليهود والنصارى”، ولا نتحدث عن سوريا إلا قليلا، وعندما نبارك حركة “25 فبراير” المغربية ونسلط الضوء على أخبار الاحتجاجات في النظام المخزني، ثم نبارك ثورة الليبيين قبل أن ننقلب عليها، في حين أننا نصر على أن الجزائر “استثناء” يجعلنا نسكت أمام مد التغيير الجارف وتحول الثورات إلى فوضى تستقوي بالخارج على الداخل، عندما نفعل كل ذلك فنحن نكشف عن غياب البعد الأخلاقي والمنطق العقلي في قراءتنا لواقعنا.

في سياق هذا الحراك العربي، تجاهلت أقلامنا حقيقة أساسية مفادها أن الحرية شيء مقدّس: سواء كانت في ليبيا أو سوريا أو السعودية أو حتى الجزائر، وأن انحراف بعض المطالبين بها لا يعني بحال السكوت عن جريمة الأنظمة الأولى: الاستبداد. ولهذا كتبنا عن الشرق والغرب، وطالب بعضنا بمحاسبة دايفيد كامرون على “قمعه” للمحتجين، في حين لم نكتب عن أنفسنا وواقعنا شيئا سوى التذكير بأننا “استثناء”، في عالم لا يعترف بالاستثناءات.

تجاهلت أقلامنا حقيقة أساسية مفادها أن الحرية شيء مقدّس: سواء كانت في ليبيا أو سوريا أو السعودية أو حتى الجزائر، وأن انحراف بعض المطالبين بها لا يعني بحال السكوت عن جريمة الأنظمة الأولى: الاستبداد.

من هذا المنطلق كتب بعض رفقاء القلم ما يدين الناتو لتدخله في ليبيا، وما يدين الناتو لسكوته عن سوريا، وما يدين الثوار في البحرين لأنهم شيعة يخدمون الأجندة الإيرانية، بل قرأنا في صحفنا ما يدين المحتجين المطالبين بالكرامة في الجزائر، والاستهزاء بتنسيقيات التغيير، ومصادرة حق سعيد سعدي في التعبير عن مطالبه، والسخرية من مسيرات السبت وأصحابها الذين ألحقوا بـ”أصحاب السبت”، بما يؤكد بشكل قاطع أن أزمتنا المهنية أزمة أخلاقية تحتاج إلى أن تراجع كثيرا من مواقفها وطريقة قراءتها للأحداث.

في عام 1926، كتب جوليان بيندا (1867 ـ 1956) كتابا أسماه “خيانة المثقفين”، ثم أعاد طبعه مرة أخرى عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية (1946) وقدم له بمقدمة وضعته في سياقه الزمني مع التأكيد على أن شيئا لم يتغير، وكان هذا العمل الإبداعي لبيندا بمثابة “مانيفستو” يُدين تخندق المثقفين ورجال القلم في صف الأنظمة المستبدة وفي مواجهة المطالبين بالحرية، حيث تحول رجال القلم إلى مدافعين عن الاستبداد بذريعة مواجهة الفوضى أحيانا، أو خدمة لمآرب شخصية أحيانا أخرى.

لقد عارض بعض المثقفين الفرنسيين التغيير في بدايات القرن العشرين بمنطق يشبه المنطق القديم: “سلطان غشوم، خير من فتنة تدوم”، فهل نحتاج اليوم إلى طبعة ثالثة من هذا الكتاب لاستشراف طرق ثالثة، حتى نذكّر أنفسنا ـ مرة أخرى ـ بالقيم الإنسانية العليا التي حملنا القلم من أجل الدفاع عنها، وحتى لا نحتمي وراء ثنائية: الاستبداد أو الفوضى، وحصاد أقلامنا في كلتا الحالتين هشيم!