في خضم الثورات العربية ومحاولات الانعتاق من أسر الاستبداد، وُظفت الفتوى كمحرك رئيسي لإثارة الشعوب وإعطائها “صكا شرعيا” يضمن لها صفة الشهادة إن هي ماتت تحت أقدام الأنظمة، وفي مقابل ذلك استدعت الأنظمة فتاوى أخرى تضع الثائرين في دائرة المحاربين والباغين والخارجين، بما يعطي المشروعية “الدينية” لكل قمع يمكنه أن يُمارس ضدهم.
تجلّت هذه المعضلة في مصر، وليبيا، واليمن، وسوريا، وفُتح باب الجدل على ما قام به البوعزيزي الذي أحرق نفسه في تونس: هل كان عملا انتحاريا محرَّما، أم كان عملا نضاليا بطوليا يستحق صاحبه وصف “الشهادة” به. وانقسم المفتون إلى فسطاطين: فمن خاف “الفتنة” أو التبس عليه الأمر أو طمع في “الزُّلفى” انحاز إلى الأنظمة وحكم على الثائرين بالمروق من الدين، أو بالتنكّب عن الصراط المستقيم، ومن انحاز إلى الشعوب منحها شهادة شرعية وحثها على “الشهادة” في سبيل الحرية والحياة الكريمة.
بالنظر إلى هذا التناقض الكبير الذي يجعل من الحاكم والمحكوم وجهين لحُكم “شرعي” واحد، علينا أن نتساءل عن السبب الكامن وراء هذا الاختلاف الذي لا يمكن أن يُعدّ بحال رحمة؛ فَمَنْ مِنَ الفريقين أصاب المقصد الشرعي ووقّع توقيعا صحيحا “نيابة عن رب العالمين”؟ ولم تشابكت الرؤى والقراءات إلى أن صارت الفتوى تمنح صفة المجرم والضحية للشخص في آن واحد، معتمدة النص “الشرعي” ذاته، بقراءة مختلفة؟ وهل يعني هذا أن الدين تحول إلى “غطاء” يتدثّر به كل ساع ما دام يجد في قراءة ما، أو قول ما، أو تفسير لنص ما، ما يمنحه اطمئنانا إلى أن ثمّة سلطة إلهية ترعى انحرافه البشري؟
الاختلاف طبيعة بشرية (ولا يزالون مُختلفين إلا من رحم ربُّك ولذلك خلقهم) [سورة هود]، وطبيعة النص الشرعي الوارد باللسان العربي: “كتابا وسُنّة” تقتضي أن يكون حمّال أوجه في بعض المدلولات، امتحانا من الله للعباد، حيث كلّفهم باستقراء النصوص والاجتهاد ومنحهم أجرا على الخطأ وأجرين على الإصابة، ما دامت الغاية هي الوصول إلى الحق، بوسائل القراءة الصحيحة، ولهذا زخر تراثنا بكم كبير من الكتب الفقهية التي أحصت الاختلاف في الفروع، والكتب الكلامية التي أحصت الاختلاف في الأصول، وأدت طبيعة الاختلاف إلى نشوء مدارس فقهية وكلامية لكل منها قواعدها وأصولها المعرفية التي تتقاطع مع غيرها تارة، وتتوازى تارات.
لم تشابكت الرؤى والقراءات إلى أن صارت الفتوى تمنح صفة المجرم والضحية للشخص في آن واحد، معتمدة النص “الشرعي” ذاته، بقراءة مختلفة؟ وهل يعني هذا أن الدين تحول إلى “غطاء” يتدثّر به كل ساع ما دام يجد في قراءة ما، أو قول ما، أو تفسير لنص ما، ما يمنحه اطمئنانا إلى أن ثمّة سلطة إلهية ترعى انحرافه البشري؟
غير أن الاختلاف عندما يتجاوز أحكاما في العبادات أو المعاملات، ويتلبّس بقضايا ترتبط بدماء الناس وتمنح للقاتل والمقتول نفس الحكم يقتضي أكثر من وقفة صارمة، لأن الفتوى تتحول إلى أداة تنحاز للمصالح والأهواء، أو تنحاز لضغط سياسي أو جماهيري، وكلا الأمرين ذميمٌ.
ظاهرة استخدام الفتوى لأغراض شخصية أو جماهيرية ليس وليد اللحظة، بل هو قديم قدم الأهواء البشرية، لم يسلم منها أحبار بني إسرائيل ولا رهبان النصارى ولا فقهاء المسلمين. وقد نقل الشاطبي في “الموافقات” عن أبي الوليد الباجي قوله: “وَأَخْبَرَنِي رَجُلٌ عَنْ كَبِيرٍ من فقهاء هذا المصنّف مَشْهُورٍ بِالْحِفْظِ وَالتَّقَدُّمِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ مُعْلِنًا غَيْرَ مُسْتَتِرٍ: إِنَّ الَّذِي لِصَدِيقِي عَلَيَّ إِذَا وَقَعَتْ لَهُ حُكُومَةٌ أَنْ أُفْتِيَهُ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي تُوَافِقُهُ”!! ثم قال الباجي مُعقّبا: “وَلَوِ اعْتَقَدَ هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ مَا اسْتَجَازَهُ، وَلَوِ اسْتَجَازَهُ لَمْ يُعْلِنْ بِهِ وَلَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ”!
ما الحل إذًا عندما يقف المرء على مثل هذه الظواهر التي تُسيء إلى الإسلام نفسه؟
قد يُكابر بعض الناس معتبرا أن هذا الخلاف “رحمة”، ما دام يحجز للقاتل والمقتول مكانا في الجنة! في حين يرى الآخرون أن هذا يعني ضرورة إخراج الفتوى من كل ما يتعلق بالنزاعات السياسية، إلا ما كان فيها حق واضح لا التباس فيه ولا هوى، وعلى الإنسان أن يتحمل تبعات أفعاله، صائبة أو خاطئة، دون الحاجة إلى “التترس” بفتوى يطلقها شيخ سعى إلى الحق سواء وصل إليه أم لم يصل، أو سعى إلى غرض دنيوي.
طيلة قرون، لم تُفلح الفتاوى في كبح جماح الصراعات السياسية في تاريخنا الإسلامي: بدءا بوقعة الجمل ومعركة صفين، ثم انفرط العقد بعد “عام الجماعة” وتحول الحكم إلى “ملك عضوض”، وما تلاها من توريث واستباحة المدينة في “وقعة الحرّة” ورمي الكعبة بالمنجنيق وقتل عبد الله بن الزبير، الحاكم الشرعي آنذاك، ثم الثورات على بني أمية التي بنى العباسيون على أنقاضها مملكتهم التي تهاوت هي الأخرى على وقع الثورات والانشقاقات.. ولا زال الأمر على نفس النسق إلى الآن، بشكل أو بآخر.
وطيلة هذه الفترة التاريخية الممتدة، شكلت الفتوى السياسية سلاحا حاول الجميع استغلاله، وانقسم العلماء إلى فسطاطين: علماء سلطة، وعلماء جماهير، دون أن يعني هذا تجريم الفريق الأول وتزكية الفريق الثاني، رغم أن مخيال عامة الناس يميل إلى نبذ فقهاء السلاطين والالتفاف حول فقهاء الجماهير، وانتهى الأمر بهذا الصراع إلى ما يمكن تسميته “تدنيس المقدّس”، فلم يعد للفتوى السياسية أي قيمة تُذكر لأنها صارت منفعلة لا فاعلة: ألم ينص الفقهاء ـ مثلا ـ على حرمة الخروج على الحاكم، في حين أنه ما قامت دولة في تاريخنا إلا بخروجها على الدولة التي سبقتها؟
ربما نحتاج إلى موقف حازم يرفض التعامل مع أي فتوى تتعلق بالشأن السياسي مهما كان مصدرها، وقد يكون هذا الحل الأمثل لمواجهة اختلاف المفتين تبعا لاختلاف الأهواء أو المشارب أو الرؤى.. حينها نكون أفلحنا في تعرية الواقع.. لنتعامل معه كواقع، بأخطائه وضعفه وقصوره، لا من منطلق كونه “مقدّسا” يستدعي الثورة عليه، فتطال سهام الثورة الإسلام نفسه.. لأننا لا نريد أن تتردد صيحات “الباستيل” القديمة بشكل متجدد: “اشنقوا آخر حاكم عربي، بأمعاء آخر فقيه”.