حرب الفتاوى في الثورات العربية!

في خضم الثورات العربية ومحاولات الانعتاق من أسر الاستبداد، وُظفت الفتوى كمحرك رئيسي لإثارة الشعوب وإعطائها “صكا شرعيا” يضمن لها صفة الشهادة إن هي ماتت تحت أقدام الأنظمة، وفي مقابل ذلك استدعت الأنظمة فتاوى أخرى تضع الثائرين في دائرة المحاربين والباغين والخارجين، بما يعطي المشروعية “الدينية” لكل قمع يمكنه أن يُمارس ضدهم.

تجلّت هذه المعضلة في مصر، وليبيا، واليمن، وسوريا، وفُتح باب الجدل على ما قام به البوعزيزي الذي أحرق نفسه في تونس: هل كان عملا انتحاريا محرَّما، أم كان عملا نضاليا بطوليا يستحق صاحبه وصف “الشهادة” به. وانقسم المفتون إلى فسطاطين: فمن خاف “الفتنة” أو التبس عليه الأمر أو طمع في “الزُّلفى” انحاز إلى الأنظمة وحكم على الثائرين بالمروق من الدين، أو بالتنكّب عن الصراط المستقيم، ومن انحاز إلى الشعوب منحها شهادة شرعية وحثها على “الشهادة” في سبيل الحرية والحياة الكريمة.

بالنظر إلى هذا التناقض الكبير الذي يجعل من الحاكم والمحكوم وجهين لحُكم “شرعي” واحد، علينا أن نتساءل عن السبب الكامن وراء هذا الاختلاف الذي لا يمكن أن يُعدّ بحال رحمة؛ فَمَنْ مِنَ الفريقين أصاب المقصد الشرعي ووقّع توقيعا صحيحا “نيابة عن رب العالمين”؟ ولم تشابكت الرؤى والقراءات إلى أن صارت الفتوى تمنح صفة المجرم والضحية للشخص في آن واحد، معتمدة النص “الشرعي” ذاته، بقراءة مختلفة؟ وهل يعني هذا أن الدين تحول إلى “غطاء” يتدثّر به كل ساع ما دام يجد في قراءة ما، أو قول ما، أو تفسير لنص ما، ما يمنحه اطمئنانا إلى أن ثمّة سلطة إلهية ترعى انحرافه البشري؟

الاختلاف طبيعة بشرية (ولا يزالون مُختلفين إلا من رحم ربُّك ولذلك خلقهم) [سورة هود]، وطبيعة النص الشرعي الوارد باللسان العربي: “كتابا وسُنّة” تقتضي أن يكون حمّال أوجه في بعض المدلولات، امتحانا من الله للعباد، حيث كلّفهم باستقراء النصوص والاجتهاد ومنحهم أجرا على الخطأ وأجرين على الإصابة، ما دامت الغاية هي الوصول إلى الحق، بوسائل القراءة الصحيحة، ولهذا زخر تراثنا بكم كبير من الكتب الفقهية التي أحصت الاختلاف في الفروع، والكتب الكلامية التي أحصت الاختلاف في الأصول، وأدت طبيعة الاختلاف إلى نشوء مدارس فقهية وكلامية لكل منها قواعدها وأصولها المعرفية التي تتقاطع مع غيرها تارة، وتتوازى تارات.

لم تشابكت الرؤى والقراءات إلى أن صارت الفتوى تمنح صفة المجرم والضحية للشخص في آن واحد، معتمدة النص “الشرعي” ذاته، بقراءة مختلفة؟ وهل يعني هذا أن الدين تحول إلى “غطاء” يتدثّر به كل ساع ما دام يجد في قراءة ما، أو قول ما، أو تفسير لنص ما، ما يمنحه اطمئنانا إلى أن ثمّة سلطة إلهية ترعى انحرافه البشري؟

غير أن الاختلاف عندما يتجاوز أحكاما في العبادات أو المعاملات، ويتلبّس بقضايا ترتبط بدماء الناس وتمنح للقاتل والمقتول نفس الحكم يقتضي أكثر من وقفة صارمة، لأن الفتوى تتحول إلى أداة تنحاز للمصالح والأهواء، أو تنحاز لضغط سياسي أو جماهيري، وكلا الأمرين ذميمٌ.

ظاهرة استخدام الفتوى لأغراض شخصية أو جماهيرية ليس وليد اللحظة، بل هو قديم قدم الأهواء البشرية، لم يسلم منها أحبار بني إسرائيل ولا رهبان النصارى ولا فقهاء المسلمين. وقد نقل الشاطبي في “الموافقات” عن أبي الوليد الباجي قوله: “وَأَخْبَرَنِي رَجُلٌ عَنْ كَبِيرٍ من فقهاء هذا المصنّف مَشْهُورٍ بِالْحِفْظِ وَالتَّقَدُّمِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ مُعْلِنًا غَيْرَ مُسْتَتِرٍ: إِنَّ الَّذِي لِصَدِيقِي عَلَيَّ إِذَا وَقَعَتْ لَهُ حُكُومَةٌ أَنْ أُفْتِيَهُ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي تُوَافِقُهُ”!! ثم قال الباجي مُعقّبا: “وَلَوِ اعْتَقَدَ هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ مَا اسْتَجَازَهُ، وَلَوِ اسْتَجَازَهُ لَمْ يُعْلِنْ بِهِ وَلَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ”!

ما الحل إذًا عندما يقف المرء على مثل هذه الظواهر التي تُسيء إلى الإسلام نفسه؟

قد يُكابر بعض الناس معتبرا أن هذا الخلاف “رحمة”، ما دام يحجز للقاتل والمقتول مكانا في الجنة! في حين يرى الآخرون أن هذا يعني ضرورة إخراج الفتوى من كل ما يتعلق بالنزاعات السياسية، إلا ما كان فيها حق واضح لا التباس فيه ولا هوى، وعلى الإنسان أن يتحمل تبعات أفعاله، صائبة أو خاطئة، دون الحاجة إلى “التترس” بفتوى يطلقها شيخ سعى إلى الحق سواء وصل إليه أم لم يصل، أو سعى إلى غرض دنيوي.

طيلة قرون، لم تُفلح الفتاوى في كبح جماح الصراعات السياسية في تاريخنا الإسلامي: بدءا بوقعة الجمل ومعركة صفين، ثم انفرط العقد بعد “عام الجماعة” وتحول الحكم إلى “ملك عضوض”، وما تلاها من توريث واستباحة المدينة في “وقعة الحرّة” ورمي الكعبة بالمنجنيق وقتل عبد الله بن الزبير، الحاكم الشرعي آنذاك، ثم الثورات على بني أمية التي بنى العباسيون على أنقاضها مملكتهم التي تهاوت هي الأخرى على وقع الثورات والانشقاقات.. ولا زال الأمر على نفس النسق إلى الآن، بشكل أو بآخر.

وطيلة هذه الفترة التاريخية الممتدة، شكلت الفتوى السياسية سلاحا حاول الجميع استغلاله، وانقسم العلماء إلى فسطاطين: علماء سلطة، وعلماء جماهير، دون أن يعني هذا تجريم الفريق الأول وتزكية الفريق الثاني، رغم أن مخيال عامة الناس يميل إلى نبذ فقهاء السلاطين والالتفاف حول فقهاء الجماهير، وانتهى الأمر بهذا الصراع إلى ما يمكن تسميته “تدنيس المقدّس”، فلم يعد للفتوى السياسية أي قيمة تُذكر لأنها صارت منفعلة لا فاعلة: ألم ينص الفقهاء ـ مثلا ـ على حرمة الخروج على الحاكم، في حين أنه ما قامت دولة في تاريخنا إلا بخروجها على الدولة التي سبقتها؟

ربما نحتاج إلى موقف حازم يرفض التعامل مع أي فتوى تتعلق بالشأن السياسي مهما كان مصدرها، وقد يكون هذا الحل الأمثل لمواجهة اختلاف المفتين تبعا لاختلاف الأهواء أو المشارب أو الرؤى.. حينها نكون أفلحنا في تعرية الواقع.. لنتعامل معه كواقع، بأخطائه وضعفه وقصوره، لا من منطلق كونه “مقدّسا” يستدعي الثورة عليه، فتطال سهام الثورة الإسلام نفسه.. لأننا لا نريد أن تتردد صيحات “الباستيل” القديمة بشكل متجدد: “اشنقوا آخر حاكم عربي، بأمعاء آخر فقيه”.

 

فن التلوين..

crayon-de-couleur-2

 الإنسان هو من يملك حقوق تلوين الحياة التي يعيشها، إن لم يملك القدرة على اختيار المشاهد واللوحات التي كان يود رسمها

عندما يبلغ الطفل الصغير مرحلة التمييز بين الأشياء، ويبدأ التعامل معها، يشكل القلم واسطة العقد ضمن سلة مقتنياته. يكتشف الطفل من خلال القلم والورقة البيضاء مبادئ التعبير عن نفسه خارج الكلام والصراخ أو البكاء، ويكون ذلك في الغالب إيذانا ببدء رحلة العمر مع “لساننا” الثاني الذي سيلازم بعضنا إلى الممات. هو وسيلتنا لنُعبّر به عن أنفسنا، لنشارك الآخرين أفراحنا ونُقاسمهم بعض همومنا وأحزاننا. أولم يقل الأدباء قديما: “القلم أحد اللسانين”؟

يتعلم الطفل عبر القلم وضع فواصل بين عالمه الداخلي، والعوالم الخارجية المحيطة به.. وكيف يبني جسورا بينها. يبدأ بـ”شخبط شخابيط” (على رأي نانسي عجرم) وينتهي بملاحم روائية وقوافٍ شعرية وإبداعات لا حصر لها، في فنون المعرفة المختلفة التي تُعمّر دهورا بعده وتُخلّد اسمه في ديوان الإنسانية.

يمسك الطفل القلم، ويرسم، ثم يُلوّن.. ولهذا ينتقل من الصفحة البيضاء إلى دفاتر التلوين، وبدل التعامل مع قلم رصاص أو حبر جاف ذي لون واحد، يقتني مجموعة أقلام مختلفة الألوان، يتعلم بها كيف يجعل من الصورة الصامتة لوحة فنية تتفجر فيها الحياة.

“فنّ التلوين” هذا، هو أول درس فعلي يتعلمه الطفل، وسيكون الدرس الأكثر تأثيرا في حياته، لأن طريقة تعامله مع الحياة ستتحدد حسب مهاراته في استعمال الألوان المختلفة، ومزجها، والتفاعل معها، وتوليد ألوان جديدة منها. ويكون تأثيره في الحياة ومن فيها بحسب قدرته على التخفيف من ثقل الأجسام المعتمة الباهتة التي تتحول بلمسات فنّية إلى حدائق غنّاء!

كما صفحات دفاتر التلوين التي يمسكها الطفل، تقابلنا الحياة.. تمنحنا فصولا مختلفة، من الخريف إلى الربيع، لكنها بلا لون. وسوف نقضي حياتِنا كلَّها، والطفل الصغير الذي بداخلنا يمسك الأقلام ليمنح ما يحيط به قبسا من الألوان. يُبدع بعضنا فيرسم لوحات مُشرقة، ويُخفق البعض الآخر فيزيد مشاهد الحياة أمامه قَتاما وسوادا.. ويُحجم آخرون، فيغادرون الحياة ولوحاتهم عذراء، لم يتغير فيها شيء!

يظن البعض أن الحياة تستقبلنا بألوان تختارها هي مُسبقا: تضع البعض في عالم “أوز” السحري، وتحمل آخرين إلى “جحيم” دانتي. لهذا لا يمكن للإنسان أن يهرب من قدَره الذي يطارده. والإيمان بالقدَر في مجتمعاتنا يُحوّل الإنسان – السلبي بذاته – إلى كائن هامد حياته كلها “سبات شتوي” “وعزاء كربلائي”، في حين أن الإيمان بالقدَر يمنح المؤمن قوة التغيير لأنه يُدرك أن الوجه الباطني للمقادير هو العدل الذي قامت به السماوات والأرض.

المترفون الذين وُلدوا وهم يملكون كل شيء، يراهم من هو دونهم في عوالم وردية ويتمنى لو كان مكانهم. لكننا لا نُدرك ما لا يملكونه: الانبهار أمام كل جديد وجميل، الشعور بالعجز والضعف لعدم قدرتنا على اقتناء ما نريد، الطموح، الثورة على أنفسنا وتحقيق النجاح بأيدينا وكدّنا، قوة العزم على التغيّر والتغيير، والاستمتاع بما نجحنا في الحصول عليه لأننا نحن من أهديناه لأنفسنا، مكافأة على مسار مليء بالجدّ والتعب.

غير أن للحرمان والفاقة جوانبهما المظلمة أيضا: الخمول والاستسلام، اليأس القاتل والإحباط المُزمن، النقمة على الأقدار والسخط على من يفوقنا في المركز الاجتماعي.

كل هذا يقودنا إلى حقيقة ساطعة: الإنسان هو من يملك حقوق تلوين الحياة التي يعيشها، إن لم يملك القدرة على اختيار المشاهد واللوحات التي كان يود رسمها. وبحسب إتقانه لفنّ التلوين، الذي تعلّمه منذ الصغر، سيكون نجاحه في هذه الحياة، لا بكثرة ما اقتنى فيها، ولا بحجم ما ملكه، ولكن بمقدار “المتعة” و”السعادة” التي عاشها ومنحها للآخرين.. أي بمقدار “الألوان” التي طبعها على جدار الحياة.

تعليقات.. على هامش أمل!

(1)

قيل لعبد الله ابن المُقفّع: ما البلاغة؟ قال: “هي التي إذا سمعها الجاهل ظنّ أنه يُحسن مثلها” [الكشكول للعاملي]. وجريا في مضماره أقول: “آية الشعر الجميل هو أن يدفعك للبحث عن قصيدة مُختبئة في إحدى زوايا قلبك.. لتُرغمها على الخروج من عالم المشاعر إلى عالم الإبداع”.

ليس بالضرورة أن يكون الشاعر في (توب 10 الشعراء) لتتفاعل معه. بعض قصائد امرئ القيس تمرّ عليها مرور الكرام (والله أعلم أهو من قالها أم نحلها له الرّواة!) في حين تستوقفك أبيات لشعراء مبتدئين، وآخرين مُبرّزين مغمورين، تثير في نفسك كوامن التفكير وتُحرّك وجدانك ليُخرج خبئا استعصى من قبلُ إخراجه.

اشتُقَّ “الشعر” من نفس مادة “الشعور” و”المشاعر”، لذا كان آية الشعر الحسن أن يركب وسيلة النقل “الشعور” ليصل إلى محطة “المشاعر”. ولَـمَّا قرأت قول الكاتبة الشاعرة رحاب شريف، في مدونتها (رحابيات):

أَليسَ المَمَاتُ مَمَاتَ الأمَلْ      وقتل النفوسِ قُبيلَ الأجلْ

تحرّك وجداني واستحثني على الكتابة. ماذا أكتب! لا أدري.. غير أني أحسست برغبة جامحة لأكتب دونما تفكير.

في الفيلم الشهير “العثور على فورستر” Finding Forrester  الذي جسد فيه الممثل الكبير “شين كونري” دور الكاتب العبقري الذي آثر الخمول فاختفى عن عالم الأضواء والشهرة والحياة مع الناس، قدّم الكاتب الشيخ نصيحة غالية للشاب المراهق “جمال والاس” الذي أدرك ببداهته أنه مشروع كاتب كبير: “لا تُفكّر عندما تكتب.. اكتب المسودة بقلبك ثم راجعها بعقلك”. وهذه النصيحة/ الحكمة تنفع كثيرا في مجال الكتابة الأدبية حيث يكون الوجدان هو المحرك الأول للقلم (نحن نعود إلى القلم مرة أخرى بعد تجربة “غالاكسي نوت” الناجحة! صار يُسمّى”القلم الضوئي”، وهذا الاسم يصلح عنوانا لنص أدبي مُغرٍ!).

الشاعر الكبير محمود درويش (“التوراتي” حسب وصف الشيخ عبد الله الهدلق، ذاك السلفي الممسك بأعنة البلاغة ـ وهو حالة سلفية نادرة [كتابه ميراث الصمت والملكوت لا غنى للمتأدب عن مطالعته وهو أول ما قرأت من الكتب الرقمية على الأيباد]) اقترب من هذا المعنى عندما حاول وصف الحالة الإبداعية التي تتلبّس الكاتب وتُحيط به أثناء الكتابة، حيث قال:

لا دَوْرَ لي في القصيدةِ

غيرُ امتثالي لإيقاعها:

حركاتِ الأحاسيس.. حسّاً يُعدِّل حساً

وحَدْساً يُنَزِّلُ معنًى

وغيبوبة في صدى الكلمات [لاعب النرد]

وأرى هذا الوصف أقرب إلى الدقة من وصف العرب الأوائل الذين اعتبروا الإبداع الشعري وحيا من وحي الجنّ، وقد قال المعري يصف تلك الظاهرة:

وقد كانَ أربابُ الفَصاحَةِ كُلّما       رأوا حَسَناً عَدّوهُ من صَنعةِ الجنِّ

مُشيرا إلى ما تواتر عن الشعراء العرب الذين أغربوا بذكر أسماء الشياطين التي توحي لهم القول، كقول حسّان بن ثابت (رضي الله عنه):

وَلي صاحِبٌ مِن (بَني الشَيصَبانِ)       فَطَوراً أَقولُ وَطَوراً هُوَهْ

هذا، ولأبي العلاء نص إبداعي جميل حول أشعار الجنّ وما نحله الإنس لهم في [رسالة الغفران].

(2)

أغرتني نفسي بكتابة كلمات على نهج هاتيك الأبيات.. فجاء البيت الأوّل يتهادى:

يُذيب الفؤادَ اختفاءُ الأَملْ *  فدمعُ القريب/ الغريبِ انهمَلْ

ثُمّ وجدتُني أُفكر في البيت الذي يليه.. أغرقتُ في التفكير قليلا.. فكتبتُ البيت الثاني لكنّني سرعان ما حذفتُه وصرفتُ نفسي عن مواصلة استدعاء الشعر.. لأنني وجدتُني أخالف مذهبي في النص الإبداعي (غيبوبةً في صدى الكلمات)، وأنا لا أملك من الغواية ما يؤهلني لأحظى بشيطان يُملي عليّ الشعر، فمن يدري.. ربما يكون للأوائل وجه حق في إشراك الجنّ في العملية الإبداعية، ولو من حيث التسويق للقصائد.

بدلا عن ذلك، أعدت النظر في مطلع الأبيات التي حفزتني على الكتابة:

أَليسَ المَمَاتُ مَمَاتَ الأمَلْ      وقتلُ النفوسِ قُبيلَ الأجلْ؟

وبعيدا عن تشابه الإيقاع والقافية (وشيء من المعنى) مع بيت ابن زيدون، شاعر الأندلس، إذ قال:

عَلَيكِ السَلامُ سَلامُ الوَداعِ       وَداعِ هَوىً ماتَ قَبلَ الأَجَلْ

تداعت عليّ الأفكار.. لا أفكار الشعر والأدب والهوى، ولكن أفكار المتكلمين والفقهاء الذين يقيسون الكلمات بالمسطرة ويُحوّلون كلّ عبارة إلى مشروع قضية تُحشر لها الأدلة وعليها، وتُنصب المحاكم لمقاضاتها!!

(3)

بدلا من النّفاذ إلى المعنى البديع الذي حواه الشطر الأول (الممات الحقيقي هو موت الأمل) ولّيتُ وجهي قِبَل الشّطر الثاني.. (=طبعا هناك ما يشفع لي لأن العين عندما تنظر للصفحة تنحاز لأعلى ما في اليسار، ثم أعلى ما في اليمين، ثم تنتقل إلى أسفل اليسار فأسفل اليمين على شكل الحرف اللاتيني (z)، والعهدة على خبراء العيون والدماغ.. على الأقل صدّقهم أرباب النشر الصحفي الذين بنوا تصميم صفحات الجرائد على هذه النظرية=) بدلا من تأمل المعنى الجميل الذي حوته، سحبني الشطر الثاني (وقتلُ النفوسِ قُبيلَ الأجلْ)، ونقلني هذا المعنى إلى الصراع القديم بين جماهير المتكلمين (معتزلة وأشعرية) حول قضية “هل يموت الميت بأجله أم يُمكن أن يموت قبله؟”. فقلتُ: لو وقع هذا الكلام إلى خُبراء التصنيف (ليس تصنيفَ المكتبات أعني بل تصنيف الناس إلى فرق ومذاهب وملل ونحل لا يكون بين بعضها سوى مليمترات قليلة!)، لقالوا: إن صاحب هذا الكلام معتزلي، ولا كرامة! لكنّ العزاء أنه لو وقع بين يدي أبي عثمان الجاحظ، وهو الأديب الأريب، لاحتفى به، وأدرجه ضمن دواوينه، وعدّ قائله من عقلاء الناس إن كان رجلا.. فإن كانت امرأة عدّها من الحكيمات ذوات العقل الكامل! فسبحان من جعل اختلاف العقول بين الناس أكبر من اختلاف ألسنتهم وألوانهم! وسبحان من فرّق بين الفقيه وبين الشعر، حتى لا يكاد يُحسن من قوله شيئا وإن حفظ أوزان الخليل، وميّز بين فصيح اللغة والدّخيل (طبعا لا أقصد تركي الدّخيل ولا خطر على بالي!).

وبعد؟

أكلّ هذا الكلام المتناثر من أجل أبيات قرأتُها؟

نعم.. لأنني قرأتُ فيها نفسي.. أنا الواقف على شفير موت الأمل بداخلي، يتنازعني شابٌّ يافعٌ أديبٌ يهوى الحياة، وشيخٌ فقيهٌ يُمارس دور الرقابة وينهى صاحبه عن التصابي.. أولستُ أنا ذلك (الشيخ بمكة، والعاشق بباريس)، أقّدم رجلا وأؤخر أخرى، وكأني أسمع يزيد بن الوليد يقول لي كما قال لمروان بن محمّد لمّا بلغه تلكّؤه في بيعته: “أمَّا بعدُ؛ فإني أراكَ تُقدِّم رِجْلاً وتؤخِّرُ أُخرى، فاعتمدْ على أيتهما شئت، والسلام” [أدب الكاتب لابن قُتيبة] فعلى أي القدمين سيكون اعتمادي؟

شيخ في مكة.. وعاشق في باريس!

doublemasque

على نغمة رسالة جوال تأتيك من وراء البحار.. تشرع على نفسك أبواب الأسى، وتسدّ باب الأمل.

علمتك الحياة أن الأمل أشدّ أعدائك خطرا.. فهو يجعلك معلقا بين السماء والأرض بأكثر من خيط رجاء، يرفعك حينا ويخفضك حينا، ترى في كل رفعة أنك خُلقت لتُطاول النجوم، وتكتشف في كل نزول أنك ما ارتفعت إلا لتنزل، وما طرت إلا ليكون سقوطك أشد إيلاما وأقوى جلبة.. عبثا تتساءل: أكنت ـ بلا وعي ـ عروسا تُحرّكها خيُوط القدر، أم أنك كنت عروسا تُحرّك بوعي. لم تعد تطرح السؤال الوجودي: أكنت مسيّرا أم مُخيّرا. فجدلية القدر التي علق في متاهاتها الحُكماء وانقسمت بسببها الطوائف والملل علّمتك ألا تسأل هذا السؤال. هاتف يحتجّ من أعماقك بمكر: لم تُصرّ على إقحام ثقافتك القديمة في كل شيء؟ تحشر أنف التراث الذي نهلت منه زمنا في كتاباتك وكأنك تريده أن يكون رقيبا عليك.. شاهدا على صمودك.. أنت الذي ما عرفت يوما كيف تصمد حتى في معارك الحرف ومسارات القلم.

لم تعد تجد الوقت لتسأل نفسك عن هويتك.. هل غيّرت جلدك أم هو قانون التطور فرض عليك هذا التغيّر.. كما لم تخترْ يوما تاريخ ميلادك وجنسك وجنسيّتك. ـ يعقّب أناك الآخر في داخلك: “كما لم تختر انتماءك ودينك”! تحتمي من هذه الملاحظة العابرة بمكتبة عتيقة حرصتَ على اقتناء كُتبها نُسخةً نُسخةً، قبل أن تقع ضحية رطوبة سببتها كثرة ترحالك، وتهرع إلى كتاب “المنقذ من الضلال” لأبي حامد الغزالي مستحضرا ما قاله عن الشك الموصل إلى اليقين عبر رحلة تأملية إشراقية.

فجأة تقفز من الغزالي إلى ديكارت.. متأرجحا بين شك منهجي موصل إلى الحقيقة، وحقيقة “لا منهجية” تقودك إلى الشك، وتعبر ذاكرتُك فضاءً زمنيا طويلا دشنته مقالات أهل الاعتزال مع واصل بن عطاء، وأزّمته تأملات أبي حيّان وجماعة إخوان الصفاء والمعرّي، وسجلته أقلام المُدوّنين ونسبته إلى مذهب الواقفية في أصول الفقه، ومذهب الشكّاكة في أصول الدين.

بعد هذا تعرف أنك لن تجيب عن هذا السؤال أيضا لأنك اكتشفت (متأخّرا) أنك تحتمي بالفلسفة كي تبرر انكساراتك وتمنح لهُويِّك مجد الارتقاء وشرف الصعود.

تُحاول أن تسأل الناس عن نفسك.. من تكون؟

سؤالٌ أرّقك (ما أكثر الأسئلة التي تُؤرّقك) لأنك تعلم أن جميع من يتحدث عنك لا يعرفك حق المعرفة. هو ذا ثناؤهم يخلع عليك أوصاف العُظماء! وهو ذا هجاؤهم يخلع عنك أوصاف العُظماء!

تعود إلى نفسك بالسؤال: من أكون؟ تضرب لك موعدا للجواب، لكنها تُخلفه في كل مرة كرجل يُماطل في أداء دينه.

أصدقاؤك احتاروا في العثور على ذبذبة أفكارك.. سألوك أكثر من مرة الكشف عن أوراق ثبوتك وبطاقة هويتك الفكرية، لكنهم كانوا يعودون بعد كل سؤال بأكثر من خيبة: “مشاعر مشرقية داخل عقل غربي”. ربما عكس بعضهم الأمر واعتبر أن لك “مشاعر غربية داخل عقل مشرقي”! ألم يُضرب لك مثلٌ يعكس هذه الازدواجية: شيخٌ بمكة، وعاشقٌ بباريس!

تفيق من تأملك الذي غاص بك في ذاتك: أكلّ هذا بسبب رسالة جوال تحمل في كل حرف أكثر من حيرة.. وأكثر من حسرة؟!

لن تجد عناء في اكتشاف الجواب، أنت الذي كنت ماهرا في إيجاد الأجوبة للتائهين وعجزت عن استحضار جواب يُسعفك في محنتك. فقط لأنك تعاملت مع نفسك ككائن خارجي، أفلحت في الاقتراب منها ولو مؤقتا.

لم تكن الرسالة التي تلقيتَها هي السبب.. إنه رقم مُرسلك.. ذاك الذي يُذكّرك وأنت تقرأ مفتاحه الدوليّ الذي يشي بجنسيتك (213) بأنك بعيدٌ عن بلدك.. وأنك وأنت تقطع تذكرة سفر إلى قدرك الآخر قد قطعت تذكرة موازية تنقلك من وضع المواطن إلى وضعية الغريب!